سورة الأحزاب - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


سبب نزولها أن أزواجه، صلى الله عليه وسلم، تغايرن وأردن زيادة في كسوة ونفقة، فنزلت. ولما نصر الله نبيه وفرق عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلى والحلل والإماء والخول، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق. وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن؛ وأزواجه إذ ذاك تسع: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سملة بنت أبي أمية، وهؤلاء من قريش. ومن غير قريش: ميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية.
وقال أبو القاسم الصيرفي: لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، فاختار الآخرة، وأمر بتخيير نسائه ليظهر صدق موافقتهن، وكان تحته عشر نساء، زاد الحميرية، فاخترن الله ورسوله إلا الحميرية. وروي أنه قال لعائشة، وبدأ بها، وكانت أحبهن إليه: «إن ذاكر لك أمراً، ولا عليك أن لا تعجلي فيه تستأمري أبويك» ثم قرأ عليها القرآن، فقالت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، لا تخبر أزواجك أني اخترتك، فقال: «إنما بعثني الله مبلغاً ولم يبعثني متعنتاً» والظاهر أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها، متعهن رسول الله وطلقهن، وأنه ليس باختيارهن ذلك يقع الفراق دون أن يوقعه هو. وقال الأكثرون: هي آية تخيير، فإذا قال لها: اختاري، فاختارت زوجها، لم يكن ذلك طلاقاً. وعن علي: تكون واحدة رجعية، وإن اختارت نفسها، وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول علي؛ وواحدة رجعية عند الشافعي، وهو قول عمر وابن مسعود؛ وثلاث عند مالك. وأكثر الناس ذهبوا إلى أن الآية في التخيير والطلاق، وهو قول علي والحسن وقتادة، قال هذا القائل. وأما أمر الطلاق فمرجأ، فإن اخترن أنفسهن، نظر هو كيف يسرحهن، وليس فيها تخيير في الطلاق، لأن التخيير يتضمن ثلاث تطليقات، وهو قد قال: {وأسرحكن سراحاً جميلاً}، وليس مع بت الطلاق سراح جميل. انتهى.
والذي يدل عليه ظاهر الآية هو ما ذكرناه أولاً من أنه علق على إرادتهن زينة الحياة الدنيا وقوع التمتيع والتسريح منه، والمعنى في الآية: أنه كان عظيم همكن ومطلبكن التعمق في الدنيا ونيل نعيمها وزينتها.
وتقدم الكلام في: {فتعالين} في قوله تعالى: {قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} في آل عمران. {أمتعكن}، قيل: المتعة واجبة في الطلاق؛ وقيل: مندوب إليها.
والأمر في قوله: {ومتعوهن} يقتضي الوجوب في مذهب الفقهاء، وتقدم الكلام في ذلك، وفي تفصيل المذاهب في البقرة. والتسريح الجميل إما في دون البيت، أو جميل الثناء، والمعتقد وحسن العشرة إن كان تاماً. وقرأ الجمهور: {أمتعكن}، بالتشديد من متع؛ وزيد بن علي: بالتخفيف من أمتع، ومعنى {أعد}: هيأ ويسر، وأوقع الظاهر موقع المضمر تنبيهاً على الوصف الذي ترتب لهن به الأجر العظيم، وهو الإحسان، كأنه قال: أعدلكن، لأن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسناً. وقراءة حميد الخراز: {أمتعكن وأسرحكن}، بالرفع على الاستئناف؛ والجمهور: بالجزم على جواب الأمر، أو على جواب الشرط، ويكون {فتعالين} جملة اعتراض بين الشرط وجزائه، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض، ومثل ذلك قول الشاعر:
واعلم فعلم المرء ينفعه *** إن سوف يأتي كل ما قدرا
ثم نادى نساء النبي، ليجعلن بالهن مما يخاطبن به، إذا كان أمراً يجعل له البال. وقرأ زيد بن علي، والجحدري، وعمرو بن فائد الأسواري، ويعقوب: تأت، بتاء التأنيث، حملاً على معنى من؛ والجمهور: بالياء، حملاً على لفظ من. {بفاحشة مبينة}: كبيرة من المعاصي، ولا يتوهم أنها الزنا، لعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك، ولأنه وصفها بالتبيين والزنا مما يتستر به، وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته. ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي، لزمهن بسبب ذلك. وكونهن تحت الرسول أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب. وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، والكسائي: {يضاعف}، بألف وفتح العين؛ والحسن، وعيسى، وأبو عمرو: بالتشديد وفتح العين؛ والجحدري، وابن كثير، وأبو عامر: بالنون وشد العين مكسورة؛ وزيد بن علي، وابن محيصن، وخارجة، عن أبي عمرو: بالألف والنون والكسر؛ وفرقة: بياء الغيبة والألف والكسر. ومن فتح العين رفع {العذاب}، ومن كسرها نصبه. {ضعفين}: أي عذابين، فيضاف إلى عذاب سائر الناس عذاب آخر. وقال أبو عبيدة، وأبو عمرو فيما حكى الطبري عنهما: إنه يضاف إلى العذاب عذابان، فتكون ثلاثة. وكون الأجر مرتين بعد هذا القول، لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة. {وكان ذلك}: أي تضعيف العذاب عليهن، {على الله يسيراً}: أي سهلاً، وفيه إعلام بأن كونهن نساء، مع مقارفة الذنب، لا يغني عنهن شيئاً، وهو يغني عنهن، وهو سبب مضاعفة العذاب.
{ومن يقنت}: أي يطع ويخضع بالعبودية لله، وبالموافقة لرسوله. وقرأ الجمهور: ومن يقنت بالمذكر، حملاً على لفظ من، وتعمل بالتاء حملاً على المعنى. {نؤتها}: بنون العظمة. وقرأ الجحدري، والأسواري، ويعقوب، في رواية: ومن تقنت بتاء التأنيث، حملاً على المعنى، وبها قرأ ابن عامر في رواية، ورواها أبو حاتم عن أبي جعفر وشيبة ونافع. وقال ابن خالويه: ما سمعت أن أحداً قرأ: ومن يقنت، إلا بالتاء.
وقرأ السلمي، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي: بياء من تحت في ثلاثتها. وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ: ومن يقنت بالياء، حملاً على المعنى، ويعمل بالياء حملاً على لفظ من قال؛ فقال بعض النحويين: هذا ضعيف، لأن التذكير أصل لا يجعل تبعاً للتأنيث، وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن، وهو قوله تعالى: {خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} انتهى. وتقدم الكلام على {خالصة} في الأنعام. والرزق الكريم: الجنة. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون في ذلك وعد دنياوي، أي أن أرزاقها في الدنيا على الله، وهو كريم من حيث هو حلال وقصد، وبرضا من الله في نيله. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعد به ضعفين هو عذاب الدنيا، ثم عذاب الآخرة؛ وكذلك الأجر، وهو ضعيف. انتهى. وإنما ضوعف أجرهن لطلبهن رضا رسول الله، بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة والتوقر على عبادة الله
. {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء}: أي ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء، أي من نساء عصرك. وليس النفي منصباً على التشبيه في كونهن نسوة. تقول: ليس زيد كآحاد الناس، لا تريد نفي التشبيه عن كونه إنساناً، بل في وصف أخص موجود فيه، وهو كونه عالماً، أو عاملاً، أو مصلياً. فالمعنى: أنه يوجد فيكن من التمييز ما لا يوجد في غيركن، وهو كونكن أمهات المؤمنين وزوجات خير المرسلين. ونزل القرآن فيكن، فكما أنه عليه السلام ليس كأحد من الرجال، كما قال عليه السلام: «لست كأحدكم»، كذلك زوجاته اللاتي تشرفن به. وقال الزمخشري: أحد في الأصل بمعنى وحد، وهو الواحد؛ ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه، والمعنى: لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة، لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومنه قوله عز وجل: {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم} يريد بين جماعة واحدة منهم، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين. انتهى. أما قوله: أحد في الأصل بمعنى: وحد، وهو الواحد فصحيح. وأما قوله: ثم وضع، إلى قوله: وما وراءه، فليس بصحيح، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحداً، لأن واحد ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة، وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل. وذكر النحويون أن مادته همزة وحاء ودال، ومادة أحد بمعنى وحد أصله واو وحاء ودال، فقد اختلفا مادة ومدلولاً. وأما قوله: {لستن} كجماعة واحدة، فقد قلنا: إن قوله {لستن} معناه: ليست كل واحدة منكن، فهو حكم على كل واحدة واحدة، ليس حكماً على المجموع من حيث هو مجموع. وقلنا: إن معنى كأحد: كشخص واحد، فأبقينا أحداً على موضوعه من التذكير، ولم نتأوله بجماعة واحدة.
وأما {ولم يفرقوا بين أحد منهم} فاحتمل أن يكون الذي للنفي العام، ولذلك جاء في سياق النفي، فعم وصلحت البينية للعموم. واحتمل أن يكون أحد بمعنى واحد، ويكون قد حذف معطوف، أي بين واحد وواحد من رسله، كما قال الشاعر:
فما كان بين الخير لوجا سالماً *** أبو حجر إلا ليال قلائل
أي: لستن مثلهن إن اتقيتن الله، وذلك لما انضاف مع تقوى الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه، ونزول القرآن في بيتهن وفي حقهن. وقال الزمخشري: {إن اتقيتن}: إن أردتن التقوى، وإن كن متقيات. {فلا تخضعن بالقول}: فلا تجبن بقولكنّ خاضعاً، أي ليناً خنثاً، مثل كلام المريبات والمومسات. {فيطمع الذي في قلبه مرض}: أي ريبة وفجوراً. انتهى. فعلى القول الأول يكون {إن اتقيتن} قيداً في كونهن لسن كأحد من النساء، ويكون جواب الشرط محذوفاً. وعلى ما قاله الزمخشري، يكون {إن اتقيتن} ابتداء شرط، وجوابه {فلا تخضعن}، وكلا القولين فيهما حمل. {إن اتقيتن} على تقوى الله تعالى، وهو ظاهر الاستعمال، وعندي أنه محمول على أن معناه: إن استقبلتن أحداً، {فلا تخضعن}. واتقى بمعنى: استقبل معروف في اللغة، قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولته واتقتنا باليد
أي: استقبلتنا باليد، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن، إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى، ولا علق نهيهن عن الخضوع بها، إذ هن متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى. قال ابن عباس: لا ترخصن بالقول. وقال الحسن: لا تكلمن بالرفث. وقال الكلبي: لا تكلمن بما يهوى المريب. وقال ابن زيد: الخضوع بالقول ما يدخل في القلب الغزل. وقيل: لا تلن للرجال القول. أمر تعالى أن يكون الكلام خيراً، لا على وجه يظهر في القلب علاقة ما يظهر عليه من اللين، كما كان الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم الصوت ولينه، مثل كلام المومسات، فنهاهن عن ذلك، وقال الشاعر:
يتكلم لو تستطيع كلامه *** لانت له أروى الهضاب الصخر
وقال آخر:
لو أنها عرضت لأشمط راهب *** عبد الإله ضرورة المتعبد
لرنا لرؤيتها وحسن حديثها *** ولحالها رشداً وإن لم يرشد
وقرأ الجمهور: {فيطمع}، بفتح الميم ونصب العين، جواباً للنهي؛ وأبان بن عثمان، وابن هرمز: بالجزم، فكسرت العين لالتقاء الساكنين، نهين عن الخضوع بالقول، ونهى مريض القلب عن الطمع، كأنه قيل: لا تخضع فلا تطمع. وقراءة النصب أبلغ، لأنها تقتضي الخضوع بسبب الطمع. وقال أبو عمرو الداني: قرأ الأعرج وعيسى: فيَطمِع، بفتح الياء وكسر الميم. ونقلها ابن خالويه عن أبي السماء، قال: وقد روي عن ابن محيصن، وذكر أن الأعرج، وهو ابن هرمز، قرأ: فيُطمِعَ، بضم الياء وفتح العين وكسر الميم، أي فيطمع هو، أي الخضوع بالقول؛ والذي مفعول، أو الذي فاعل والمفعول محذوف، أي فيطمع نفسه.
والمرض، قال قتادة: النفاق؛ وقال عكرمة: الفسق والغزل. {وقلن قولاً معروفاً}: والمحرم، وهو الذي لا تنكره الشريعة ولا العقول. قال ابن عباس: المرأة تندب إذا خالطت الأجانب، عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول من غير رفع الصوت، فإنها مأمورة بخفض الكلام. وقال الكلبي: معروفاً صحيحاً، بلا هجر ولا تمريض. وقال الضحاك: عنيفاً؛ وقيل: خشناً حسناً؛ وقيل: معروفاً، أي قولاً أُذن لكم فيه؛ وقيل: ذكر الله وما يحتاج إليه من الكلام.
وقرأ الجمهور: وقِرن، بكسر القاف، من وقر يقر إذا سكن وأصله، أوقرن، مثل عدن من وعد. وذكر أبو الفتح الهمداني، في كتاب التبيان، وجهاً آخر قال: قار يقار، إذا اجتمع، ومنه القارة لاجتماعها. ألا ترى إلى قول عضل والديش: اجتمعوا فكونوا قارة؟ فالمعنى: اجمعن أنفسكن في بيوتكن. {وقرن}: أمر من قار، كما تقول: خفن من خاف؛ أو من القرار، تقول: قررت بالمكان، وأصله: واقررت، حذفت الراء الثانية تخفيفاً، كما حذفوا لام ظللت، ثم نقلت حركتها إلى القاف فذهبت ألف الوصل. وقال أبو علي: أبدلت الراء ونقلت حركتها إلى القاف، ثم حذفت الياء لسكوتها وسكون الراء بعدها. انتهى، وهذا غاية في التحميل كعادته. وقرأ عاصم ونافع: بفتح القاف، وهي لغة العرب؛ يقولون: قررت بالمكان، بكسر الراء وبفتح القاف، حكاه أبو عبيد والزجاج وغيرهما، وأنكرها قوم، منهم المازني، وقالوا: بكسر الراء، من قرت العين، وبفتحها من القرار. وقرأ ابن أبي عبلة: واقررن، بألف الوصل وكسر الراء الأولى. وتقدم لنا الكلام على قررت، وأنه بالفتح والكسر من القرار ومن القرة. أمرهن تعالى بملازمة بيوتهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم تعالى أنه فعل الجاهلية الأولى، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية بكت حتى تبل خمارها، تتذكر خروجها أيام الجمل تطلب بدم عثمان. وقيل لسودة: لم لا تحجين وتعتمرين كما يفعل إخوانك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي، فما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها.
{ولا تبرجن}، قال مجاهد وقتادة: التبرج: التبختر والتغنج والتكسر. وقال مقاتل: تلقي الخمار على وجهها ولا تشده. وقال المبرد: تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره. و{الجاهلية الأولى}: يدل على أن ثم جاهلية متقدمة وأخرى متأخرة. فقيل: هما ابنان لآدم، سكن أحدهما الجبل، فذكور أولاده صباح وإناثهم قباح؛ والآخر السهل، وأولاده على عكس ذلك. فسوى لهم إبليس عيداً يجتمع جميعهم فيه، فمال ذكور الجبل إلى إناث السهل وبالعكس، فكثرت الفاحشة، فهو تبرج الجاهلية الأولى. وقال عكرمة والحكم بن عيينة: ما بين آدم ونوح، وهي ثمانمائة سنة، كان الرجال صباحاً والنساء قباحاً، فكانت المرأة تدعو الرجل إلى نفسها.
وقال ابن عباس أيضاً: الجاهلية الأولى ما بين إدريس ونوح، كانت ألف سنة، تجمع المرآة بين زوج وعشيق. وقال الكلبي وغيره: ما بين نوح وإبراهيم. قال مقاتل: زمن نمروذ، بغايا يلبسن أرق الدروع ويمشين في الطرق. وقال الزمخشري: والجاهلية الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء، وهي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم. كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. وقال أبو العالية: من داود وسليمان، كان للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين، يظهر منه الأكعاب والسوأتان. وقال المبرد: كانت المرأة تجمع بين زوجها وحلمها، للزوج نصفها الأسفل، وللحلم نصفها، يتمتع به في التقبيل والترشف. وقيل: ما بين موسى وعيس. وقال الشعبي: ما بين عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام. وقال مقاتل: الأولى زمن إبراهيم، والثانية زمن محمد، عليه الصلاة والسلام، قبل أن يبعث. وقال الزجاج: الأشبه قول الشعبي، لأنهم هم الجاهلية المعروفون، كانوا يتخذون البغايا. وإنما قيل الأولى، لأنه يقال لكل متقدم ومتقدمة أول وأولى، وتأويله أنهم تقدموا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أولى، وهم أول من أمة محمد، عليه الصلاة والسلام. وقال عمر لابن عباس: وهل كانت الجاهلية إلا واحدة؟ فقال ابن عباس: وهل كانت الأولى إلا ولها آخرة؟ فقال عمر: لله درك يا ابن عباس.
وقال الزمخشري: والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام. ويجوز أن يكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، فكان المعنى: ولا يجدكن بالتبرج جاهلية في الإسلام يتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر. ويعضده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأبي الدرداء: «إن فيك جاهلية»، قال: جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال: «بل جاهلية كفر» انتهى. والمعروف في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام إنما قال: «إنك امرؤ فيك جاهلية»، لأبي ذر، رضي الله عنه. وقال ابن عطية: والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي خصها، فأمرن بالنقلة من سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر، ولأنهم كانوا لا غيرة عندهم، وكان أمر النساء دون حجبة، وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى. وقد مر إطلاق اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام، فقالوا: جاهلي في الشعراء. وقال ابن عباس في البخاري: سمعت، أي في الجاهلية إلى غير هذا. انتهى.
{وأقمن الصلاة}: أمرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة، إذ هما عمودا الطاعة البدنية والمالية، ثم جاء بهما في عموم الأمر بالطاعة، ثم بين أن نهيهن وأمرهن ووعظهن إنما هو لإذهاب المأثم عنهن وتصونهن بالتقوى.
واستعار الرجس للذنوب، والطهر للتقوى، لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بها ويتلوث، كما يتلوث بدنه بالأرجاس. وأما الطاعات، فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر، وفي هذه الاستعارة تنفير عما نهى الله عنه، وترغيب فيما أمر به. والرجس يقع على الإثم، وعلى العذاب، وعلى النجاسة، وعلى النقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت. وقال الحسن: الرجس هنا: الشرك. وقال السدي: الإثم. وقال ابن زيد: الشيطان. وقال الزجاج: الفسق؛ وقيل: المعاصي كلها، ذكره الماوردي. وقيل: الشك؛ وقيل: البخل والطبع؛ وقيل: الأهواء والبدع. وانتصب أهل على النداء، أو على المدح، أو على الاختصاص، وهو قليل في المخاطب، ومنه:
بل الله نرجو الفضل *** وأكثر ما يكون في المتكلم وقوله:
نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق
ولما كان أهل البيت يشملهن وآباءهن، غلب المذكر على المؤنث في الخطاب في: {عنكم}، {ويطهركم}. وقول عكرمة، ومقاتل، وابن السائب: أن أهل البيت في هذه الآية مختص بزوجاته عليه السلام ليس بجيد، إذ لو كان كما قالوا، لكان التركيب: عنكن ويطهركن، وإن كان هذا القول مروياً عن ابن عباس، فلعله لا يصح عنه. وقال أبو سعيد الخدري: هو خاص برسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين. وروي نحوه عن أنس وعائشة وأم سلمة. وقال الضحاك: هم أهله وأزواجه. وقال زيد بن أرقم، والثعلبي: بنو هاشم الذين يحرمون الصدقة آل عباس، وآل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، ويظهر أنهم زوجاته وأهله، فلا تخرج الزوجات عن أهل البيت، بل يظهر أنهن أحق بهذا الاسم لملازمتهن بيته، عليه الصلاة والسلام. وقال ابن عطية: والذي يظهر أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك ألبتة، فأهل البيت: زوجاته وبنته وبنوها وزوجها. وقال الزمخشري: وفي هذا دليل على أن نساء النبي من أهل بيته. ثم ذكر لهن أن بيوتهن مهابط الوحي، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين: وهو آيات بينات تدل على صدق النبوة، لأنه معجز بنظمه، وهو حكمة وعلوم وشرائع. {إن الله كان لطيفاً خبيراً}، حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم، أو علم من يصلح لنبوته ومن يصلح لأن تكونوا أهل بيته، أو حيث جعل الكلام جامعاً بين الغرضين. انتهى. واتصال {واذكرن} بما قبله يدل على أنهن من البيت، ومن لم يدخلهن قال: هي ابتداء مخاطبة. {واذكرن}، إما بمعنى احفظن وتذكرنه، وإما اذكرنه لغيركن واروينه حتى ينقل. و{من آيات الله}: هو القرآن، {والحكمة}: هي ما كان من حديثه وسنته، عليه الصلاة والسلام، غير القرآن، ويحتمل أن يكون وصفاً للآيات. وفي قوله: {لطيفاً}، تليين، وفي {خبيراً}، تحذير مّا. وقرأ زيد بن علي: ما تتلى بتاء التأنيث، والجمهور: بالياء.
وروي أن نساءه عليه الصلاة والسلام، قلن: يا رسول الله، ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكرنا؛ وقيل: السائلة أم سلمة.
وقيل: لما نزل في نسائه ما نزل، قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء، فنزلت: {إن المسلمين} الآية، وهذه الأوصاف العشرة تقدّم شرحها، فبدأ أولاً بالانقياد الظاهر، ثم بالتصديق، ثم بالأوصاف التي بعدهما تندرج في الإسلام وهو الانقياد، وفي الإيمان وهو التصديق، ثم ختمها بخلة المراقبة وهي ذكر الله كثيراً. ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقاً إلا في قوله: {والحافظين فروجهم والذاكرين الله كثيراً}، نص على متعلق الحفظ لكونه منزلة العقلاء ومركب الشهوة الغالبة، وعلى متعلق الذكر بالاسم الأعظم، وهو لفظ الله، إذ هو العلم المحتوي على جميع أوصافه، ليتذكر المسلم من تذكره، وهو الله تعالى، وحذف من الحافظات والذاكرات المفعول لدلالة ما تقدّم، والتقدير: والحافظاتها والذاكراته. {أعدّ الله لهم}: غلب الذكور، فجمع الإناث معهم وأدرجهم في الضمير، ولم يأت التركيب لهم ولهن.


قال الجمهور، وابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وغيرهم: خطب الرسول لزيد زينب بنت جحش، فأبت وقالت: لست بناكحة، فقال: «بلى فأنكحيه فقد رضيته لك»، فأبت، فنزلت. وذكر أنها وأخاها عبد الله كرها ذلك، فلما نزلت الآية رضيا. وقال ابن زيد: وهبت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول امرأة وهبت للنبي صلى الله عليه وسلم نفسها، فقال: «قد قبلتك وزوجتك زيد بن حارثة»، فسخطت هي وأخوها، قالا: إنما أردناه فزوجنا عبده، فنزلت، والسبب الأول أصح. ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر تلك الأوصاف السابقة من الإسلام فما بعده، عقب ذلك بما صدر من بعض المسلمين، إذ أشار الرسول بأمر وقع منهم الإباء له، فأنكر عليهم، إذ طاعته، عليه السلام، من طاعة الله، وأمره من أمره.
و {الخيرة}: مصدر من تخير على غير قياس، كالطيرة من تطير. وقرئ: بسكون الياء، ذكره عيسى بن سليمان. وقرأ الحرميان، والعربيان، وأبو جعفر، وشيبة، والأعرج، وعيسى: أن تكون، بتاء التأنيث؛ والكوفيون، والحسن، والأعمش، والسلمي: بالياء. ولما كان قوله: {لمؤمن ولا مؤمنة}، يعم في سياق النفي، جاء الضمير مجموعاً على المعنى في قوله: {لهم}، مغلباً فيه المذكر على المؤنث. وقال الزمخشري: كان من حق الضمير أن يوحد، كما تقول: ما جاءني من رجل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا. انتهى. ليس كما ذكر، لأن هذا عطف بالواو، فلا يجوز إفراد الضمير إلا على تأويل الحذف، أي: ما جاءني من رجل إلا كان من شأنه كذا، وتقول: ما جاء زيد ولا عمرو إلا ضربا خالداً، ولا يجوز إلا ضرب إلا على الحذف، كما قلنا.
{وإذ تقول}: الخطاب للرسول، عليه السلام. {للذي أنعم الله عليه}، بالإسلام، وهو أجل النعم، وهو زيد بن حارثة الذي كان الرسول تبناه. {وأنعمت عليه}: وهو عتقه، وتقدّم طرف من قصته في أوائل السورة. {أمسك عليك زوجك}: وهي زينب بنت جحش، وتقدّم أن الرسول كان خطبها له. وقيل: أنعم الله عليه بصحبتك ومودتك، وأنعمت عليه بتبنيه. فجاء زيد فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: «أرابك منها شيء» قال: لا والله ولكنها تعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال: «{أمسك عليك زوجك}»، أي لا تطلقها، وهو أمر ندب، «{واتق الله} في معاشرتها» فطلقها، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد انقضاء عدّتها. وعلل تزويجه إياها بقوله: {لكي لا يكون على المؤمنين حرج} في أن يتزوجوا زوجات من كانوا تبنوه إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات ليست داخلات فيما حرم في قوله: {وحلائل أبنائكم} وقال علي بن الحسين: كان قد أوحى الله إليه أن زيداً سيطلقها، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها. فلما شكا زيد خلقها، وأنها لا تطيعه، وأعلمه بأنه يريد طلاقها، قال: له «{أمسك عليك زوجك واتق الله}»، على طريق الأدب والوصية، وهو يعلم أنه سيطلقها. وهذا هو الذي أخفي في نفسه، ولم يرد أنه يأمره بالطلاق. ولما علم من أنه سيطلقها، وخشي رسول الله أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله على هذا القدر في شيء قد أباحه الله بأن قال؛ {أمسك}، مع علمه أنه يطلق، فأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال. انتهى. وهذا المروي عن علي بن الحسين، هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين، كالزهري، وبكر بن العلاء، والقشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم. والمراد بقوله: {وتخشى الناس}، إنما هو إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأنبياء، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم في حركاته وسكناته. ولبعض المفسرين كلام في الآية يقتضي النقص من منصب النبوة، ضربنا عنه صفحاً. وقيل؛ قوله {واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه}: خطاب من الله عز وجل، أو من النبي صلى الله عليه وسلم لزيد، فإنه أخفى الميل إليها، وأظهر الرغبة عنها، لما توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن تكون من نسائه. انتهى.
وللزمخشري: في هذه الآية كلام طويل، وبعضه لا يليق ذكره بما فيه غير صواب مما جرى فيه على مذهب الاعتزال وغيره، واخترت منه ما أنصه. قال: كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحيي من إطلاع الناس عليه، وهو في نفسه مباح متسع وحلال مطلق، لا مقال فيه ولا عيب عند الله. وربما كان الدخول في ذلك المباح سلماً إلى حصول واجبات، لعظم أثرها في الدين، ويجل ثوابها، ولو لم يتحفظ منه، لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم، إلا من أوتي فضلاً وعلماً وديناً ونظراً في حقائق الأشياء ولبابها دون قشورها. ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يديمون مستأنسين بالحديث. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذيه قعودهم، ويضيق صدره حديثهم، والحياء يصدّه أن يأمرهم بالانتشار حتى نزلت: {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منك والله لا يستحيي من الحق}. ولو أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنون ضميره، وأمرهم أن ينتشروا، لشق عليهم، ولكان بعض المقالة. فهذا من ذلك القبيل، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته، من امرأة أو غيرها، غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع.
وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضاً، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها، ولا طلب إليه. ولم يكن مستنكراً عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه، ولا مستهجناً إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر. فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة، استهم الأنصار بكل شيء، حتى أن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر. وإذا كان الأمر مباحاً من جميع جهاته، ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح، ولا مفسدة ولا مضرة بزيد ولا بأحد، بل كان مستجراً مصالح؛ ناهيك بواحدة منها: أن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أماً من أمّهات المؤمنين، إلى ما ذكر الله عز وجل من المصلحة العامّة في قوله: {لكي لا يكون} الآية. انتهى ما اخترناه من كلام الزمخشري. وقوله: {أمسك عليك} فيه وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهما لشخص واحد، فهو كقوله:
هوّن عليك ودع عنك نهياً صيح في حجراته ***
وذكروا في مثل هذا التركيب أن على وعن اسمان، ولا يجوز أن يكونا حرفين، لامتناع فكر فيك، وأعني بك، بل هذا مما يكون فيه النفس، أي فكر في نفسك، وأعني بنفسك، وقد تكلمنا على هذا في قوله: {وهزي إليك} {واضمم إليك جناحك} وقال الحوفي: {وتخفي في نفسك}: مستأنف، {وتخشى}: معطوف على وتخفي. وقال الزمخشري: واو الحال، أي تقول لزيد: {أمسك عليك زوجك}، مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفي خاشياً قاله الناس، أو واو العطف، كأنه قيل: وأن تجمع بين قولك: {أمسك}، وإخفاء قالة، وخشية الناس. انتهى. ولا يكون {وتخفي} حالاً على إضمار مبتدأ، أي وأنت تخفي، لأنه مضارع مثبت، فلا يدخل عليه الواو إلا على ذلك الإضمار، وهو مع ذلك قليل نادر، لا يبنى على مثله القواعد؛ ومنه قولهم: قمت وأصك عينه، أي وأنا أصك عينه. {والله أحق أن تخشاه} تقدّم إعراب نظيره في التوبة.
{فلما قضى زيد منها وطراً}: أي حاجة، قيل: وهو الجماع، قاله ابن عباس. وروي أبو عصمة: نوح ابن أبي مريم، بإسناد رفعه إلى زينب أنها قالت: ما كنت أمتنع منه، غير أن الله منعني منه. وقيل: إنه مذ تزوجها لم يتمكن من الاستمتاع بها. وروي أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها. وقال قتادة: الوطر هنا: الطلاق. وقرأ الجمهور: {زوجناكها}، بنون العظمة؛ وجعفر بن محمد، وابن الحنفية، وأخواه الحسن والحسين، وأبوهم علي: زوجتكها، بتاء الضمير للمتكلم. ونفى تعالى الحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهن بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن. {وكان أمر الله}: أي مقتضى أمر الله، أو مضمن أمره. قال ابن عطية: وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل.
وقال الزمخشري: {وكان أمر الله} الذي يريد أن يكونه، {مفعولاً}: مكوناً لا محالة، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب. ويجوز أن يراد بأمر الله المكون، لأنه مفعول يكن. ولما نفى الحرج عن المؤمنين فيما ذكر، واندرج الرسول فيهم، إذ هو سيد المؤمنين، نفى عنه الحرج بخصوصه، وذلك على سبيل التكريم والتشريف، ونفى الحرج عنه مرتين، إحداهما بالاندراج في العموم، والأخرى بالخصوص.
{فيما فرض الله له}، قال الحسن: فيما خص به من صحة النكاح بلا صداق. وقال قتادة: فيما أحل له. وقال الضحاك: في الزيادة على الأربع، وكانت اليهود عابوه بكثرة النكاح وكثرة الأزواج، فرد الله عليهم بقوله: {سنة الله}: أي في الأنبياء بكثرة النساء، حتى كان لسليمان، عليه السلام، ثلاثمائة حرة وسبعماية سرية، وكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية. وقيل: الإشارة إلى أن الرسول جمع بينه وبين زينب، كما جمع بين داود وبين التي تزوجها بعد قتل زوجها. وانتصب {سنة الله} على أنه اسم موضوع موضع المصدر، قاله الزمخشري؛ أو على المصدر؛ أو على إضمار فعل تقديره: ألزم أو نحوه، أو على الإغراء، كأنه قال: فعليه سنة الله. قال ابن عطية: وقوله: أو على الإغراء، ليس بجيد، لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه، وأيضاً فتقديره: فعليه سنة الله بضمير الغيبة، ولا يجوز ذلك في الإغراء، إذ لا يغرى غائب. وما جاء من قولهم: عليه رجلاً، ليسنى له تأويل، وهو مع ذلك نادر. و{الذين خلوا}: الأنبياء، بدليل وصفهم بعد قوله: {الذين يبلغون رسالات الله}. {وكان أمر الله}: أي مأموراته، والكائنات من أمره، فهي مقدورة. وقوله: {قدراً}: أي ذا قدر، أو عن قدر، أو قضاء مقضياً وحكماً مثبوتاً. و{الذين}: صفة الذين خلوا، أو مرفوع، أو منصوب على إضمارهم، أو على أمدح. وقرأ عبد الله: الذين بلغوا، جعله فعلاً ماضياً. وقرأ أبي: رسالة الله على التوحيد؛ والجمهور: يبلغون رسالات جمعاً. {وكفى بالله حسيباً}: أي محاسباً على جميع الأعمال والعقائد، أو محسباً: أي كافياً.
ثم نفى تعالى كون رسوله {أبا أحد من رجالكم}، بينه وبين من تبناه من حرمة الصهارة والنكاح ما يثبت بين الأب وولده. هذا مقصود هذه الجملة، وليس المقصود أنه لم يكن له ولد، فيحتاج إلى الاحتجاج في أمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا، ولا في أمر الحسن والحسين بأنهما كانا طفلين. وإضافة رجالكم إلى ضمير المخاطبين يخرج من كان من بنيه، لأنهم رجاله، لا رجال المخاطبين. وقرأ الجمهور؛ {ولكن رسول}، بتخفيف لكن ونصب رسول على إضمار كان، لدلالة كان المتقدّمة عليه؛ قيل: أو على العطف على {أبا أحد}.
وقرأ عبد الوارث، عن أبي عمرو: بالتشديد والنصب على أنه خبر لكن، والخبر محذوف تقديره: {ولكن رسول الله وخاتم النبيين} هو، أي محمد صلى الله عليه وسلم. وحذف خبر لكن واخواتها جائز إذا دل عليه الدليل. ومما جاء في ذلك قول الشاعر:
فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي *** ولكنّ زنجياً عظيم المشافر
أي: أنت لا تعرف قرابتي. وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة: بالتخفيف، ورفع ورسوله وخاتم، أي ولكن هو رسول الله، كما قال الشاعر:
ولست الشاعر السقاف فيهم *** ولكن مدرة الحرب العوال
أي: لكن أنا مدرة. وقرأ الجمهور: {خاتم}، بكسر التاء، بمعنى أنه ختمهم، أي جاء آخرهم. وروي عنه أنه قال: أنا خاتم نبي، وعنه: أنا خاتم النبيين في حديث واللبنة. وروي عنه، عليه السلام، ألفاظ تقتضي نصاً أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، والمعنى أن لا يتنبأ أحد بعده، ولا يرد نزول عيسى آخر الزمان، لأنه ممن نبئ قبله، وينزل عاملاً على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم مصلياً إلى قبلته كأنه بعض أمته. قال ابن عطية: وما ذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بالهداية، من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف، وما ذكره الغزالي في هذه الآية، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد، وتطرق إلى ترك تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوة، فالحذر الحذر منه، والله الهادي برحمته. وقرأ الحسن، والشعبي، وزيد بن علي، والأعرج: بخلاف؛ وعاصم: بفتح التاء بمعنى: أنهم به ختموا، فهو كالخاتم والطابع لهم.
ومن ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولي أفضل من النبي، فهو زنديق يجب قتله. وقد ادعى النبوة ناس، فقتلهم المسلمون على ذلك. وكان في عصرنا شخص من الفقراء ادعى النبوة بمدينة مالقة، فقتله السلطان بن الأحمر، ملك الأندلس بغرناطة، وصلب إلى أن تناثر لحمه.
{وكان الله بكل شيء عليماً}: هذا عام، والقصد هنا علمه تعالى بما رآه الأصلح لرسوله، وبما قدّره في الأمر كله، ثم أمر المؤمنين بذكره بالثناء عليه وتحميده وتقديسه، وتنزيهه عما لا يليق به. والذكر الكثير، قال ابن عباس: أن لا ينساه أبداً، أو التسبيح مندرج في الذكر، لكنه خص بأنه ينزهه تعالى عما لا يليق به، فهو أفضل، أو من أفضل الأذكار. وعن قتادة: قولوا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وعن مجاهد: هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب. و{بكرة وأصيلاً}: يقتضيهما اذكروا وسبحوا، والنصب بالثاني على طريق الإعمال، والوقتان كناية عن جميع الزمان، ذكر الطرفين إشعار بالاستغراق. وقال ابن عباس: أي صلوا صلاة الفجر والعشاء.
وقال الأخفش: ما بين العصر إلى العشاء. وقال قتادة: الإشارة بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر؛ ويجوز أن يكون الأمر بالذكر وإكثاره تكثير الطاعات والإقبال على الطاعات، فإن كل طاعة وكل خير من جملة الذكر. ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلاً، وهي الصلاة في جميع أوقاتها، تفضل الصلاة غيرها، أو صلاة الفجر والعشاء، لأن أداءهما أشق.
ولما أمرهم بالذكر والتسبيح، ذكر إحسانه تعالى بصلاته عليهم هو وملائكته. قال الحسن: {يصلي عليكم}: يرحمكم. وقال ابن جبير: يغفر لكم. وقال أبو العالية يثني عليكم. وقيل: يترأف بكم. وصلاة الملائكة الاستغفار، كقوله تعالى: {ويستغفرون للذين آمنوا} وقال مقاتل: الدعاء، والمعنى: هو الذي يترحم عليكم، حيث يدعوكم إلى الخير، ويأمركم بإكثار الذكر والطاعة، ليخرجكم من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة. وقال ابن زيد: من الضلالة إلى الهدى. وقال مقاتل: من الكفر إلى الإيمان. وقيل: من النار إلى الجنة، حكاه الماوردي. وقيل: من القبور إلى البعث. {وملائكته}: معطوف على الضمير المرفوع المستكن في {يصلي}، فأغنى الفصل بالجار والمجرور عن التأكيد، وصلاة الله غير صلاة الملائكة، فكيف اشتركا في قدر مشترك؟ وهو إرادة وصول الخير إليهم. فالله تعالى يريد برحمته إياهم إيصال الخير إليهم، وملائكته يريدون بالاستغفار ذلك. وقال الزمخشري: جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة، كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة، ونظيره قولهم: حياك الله: أي أحياك وأبقاك، وحييتك: أي دعوت لك بأن يحييك الله، لأنك لاتكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة؛ وكذلك عمرك الله وعمرتك، وسقاك الله وسقيتك، وعليه قوله؛ {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه}: أي ادعوا له بأن يصلى عليه. {وكان بالمؤمنين رحيماً}: دليل على أن المراد بالصلاة الرحمة. انتهى. وما ذكره من قوله، كأنهم فاعلون فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، وما ذكرناه من أن الصلاتين اشتركتا في قدر مشترك أولى.
{تحيتهم يوم يلقونه}: أي يوم القيامة. {سلام}: أي تحية الله لهم. يقول للمؤمنين: السلام عليكم، مرحباً بعبادي الذين أرضوني باتباع أمري، قاله الرقاشي. وقيل: يحييهم الملائكة بالسلامة من كل مكروه. وقال البراء بن عازب: معناه أن ملك الموت لا يقبض روح المؤمن حتى يسلم عليه. وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال: ربك يقرؤك السلام، قيل: فعلى هذا الهاء في قوله: {يلقونه} كناية عن غير مذكور، وقيل: سلام الملائكة عند خروجهم من القبور. وقال قتادة: يوم دخولهم الجنة يحيي بعضهم بعضاً بالسلام، أي سلمنا وسلمت من كل مخوف. وقيل: تحييهم الملائكة يومئذ. وقيل: هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم، وبشارتهم بالجنة. والتحية مصدر في هذه الأقوال أضيف إلى المفعول، إلا في قول من قال إنه مصدر مضاف للمحيي والمحيا، لا على جهة العمل، لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلاً مفعولاً، ولكنه كقوله: {وكنا لحكمهم شاهدين} أي للحكم الذي جرى بينهم، وليبعث إليهم، فكذلك هذه التحية الجارية بينهم هي سلام. وفرق المبرد بين التحية والسلام فقال: التحية يكون ذلك دعاء، والسلام مخصوص، ومنه: {ويلقون فيها تحية وسلاماً} والأجر الكريم: الجنة، {شاهداً} على من بعثت إليهم، وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أي مفعولاً قولك عند الله، وشاهداً بالتبليغ إليهم، وبتبليغ الأنبياء قولك. وانتصب {شاهداً} على أنه حال مقدّرة، إذا كان قولك عند الله وقت الإرسال لم يكن شاهداً عليهم، وإنما يكون شاهداً عند تحمل الشهادة وعند أدائها، أو لأنه أقرب زمان البعثة، وإيمان من آمن وتكذيب من كذب كان ذلك وقع في زمان واحد.
{وداعياً إلى الله}، قال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وقال ابن عيسى: إلى الطاعة. {بإذنه}: أي بتسهيله وتيسيره، ولا يراد به حقيقة الإذن، لأنه قد فهم في قوله: إنا أرسلناك داعياً أنه مأذون له في الدعاء. ولما كان دعاء المشرك إلى التوحيد صعباً جداً، قيل: بإذنه، أي بتسهيله تعالى. و{سراجاً منيراً}: جلي من ظلمات الشرك، واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير. ويهتدى به إذا مد الله بنور نبوته نور البصائر، كما يمد بنور السراج نور الأبصار. ووصفه بالإنارة، لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته. وقال الزجاج: هو معطوف على {شاهداً}، أي وذا سراج منير، أي كتاب نير. وقال الفراء: إن شئت كان نصباً على معنى: وتالياً سراجاً منيراً. وقال الزمخشري؛ ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف {أرسلناك}. انتهى. ولا يتضح هذا الذي قاله، إذ يصير المعنى: أرسلنا ذا سراج منير، وهو القرآن. ولا يوصف بالإرسال القرآن، إنما يوصف بالإنزال. وكذلك أيضاً إذا كان التقدير: وتالياً، يصير المعنى: أرسلنا تالياً سراجاً منيراً، ففيه عطف الصفة التي للذات على الذات، كقولك: رأيت زيداً والعالم. إذا كان العالم صفة لزيد، والعطف مشعر بالتغاير، لا يحسن مثل هذا التخريج في كلام الله، وثم حمل على ما تقتضيه الفصاحة والبلاغة.
ولما ذكر تعالى أنه أرسل نبيه {شاهداً} إلى آخره، تضمن ذلك الأمر بتلك الأحوال، فكأنه قال؛ فاشهد وبشر وأنذر وادع وانه، ثم قال؛ {وبشر المؤمنين}؛ فهذا متصل بما قبله من جهة المعنى، وإن كان يظهر أنه منقطع من الذي قبله. والفضل الكبير الثواب من قولهم: للعطايا فضول وفواضل، أو المزيد على الثواب. وإذا ذكر المتفضل به وكبره، فما ظنك بالثواب؟ أو ما فضلوا به على سائر الأمم، وذلك من جهته تعالى، أو الجنة وما أوتوا فيها، ويفسره: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير} {ولا تطع الكافرين والمنافقين}: نهي له عليه السلام عن السماع منهم في أشياء كانوا يطلبونها مما لا يجب، وفي أشياء ينتصحون بها وهي غش. {ودع أذاهم}: الظاهر إضافته إلى المفعول. لما نهى عن طاعتهم، أمر بتركه إذايتهم وعقوبتهم، ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف. {وتوكل على الله}، فإنه ينصرك ويخذلهم. ويجوز أن يكون مصدراً مضافاً للفاعل، أي ودع إذايتهم إياك، أي مجازاة الإذاية من عقاب وغيره حتى تؤمر، وهذا تأويل مجاهد..


لما ذكر تعالى قصة زيد وزينب وتطليقه إياها، وكانت مدخولاً بها، واعتدت، وخطبها الرسول، عليه السلام، بعد انقضاء عدتها، بين حال من طلقت قبل المسيس، وأنها لا عدة عليها.
ومعنى {نكحتم}: عقدتم عليهن. وسمى العقد نكاحاً لأنه سبب إليه، كما سميت الخمر إثماً لأنها سبب له. قالوا: ولفظ النكاح في كتاب الله لم يرد إلا في العقد، وهو من آداب القرآن؛ كما كنى عن الوطء بالمماسة والملامسة والقربان والتغشي والإتيان، قيل: إلا في قوله: {حتى تنكح زوجاً غيره} فإنه بمعنى الوطء، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة. والكتابيات، وإن شاركت المؤمنات في هذا الحكم، فتخصيص المؤمنات بالذكر تنبيه على أن المؤمن لا ينبغي أن يتخير لنطفته إلا المؤمنة. وفائدة المجيء بثم، وإن كان الحكم ثابتاً، إن تزوجت وطلقت على الفور، ولمن تأخر طلاقها. قال الزمخشري: نفي التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن يطلقها، وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح، وتتراخى بها المدة في حيالة الزوج ثم يطلقها. انتهى. واستعمل صلة لمن عسى، وهو لا يجوز، أو لوحظ في ذلك الغالب. فإن من أقدم على العقد على امرأة، إنما يكون ذلك لرغبة، فيبعد أن يطلقها على الفور، لأن الطلاق مشعر بعدم الرغبة، فلا بد أن يتخلل بين العقد والطلاق مهلة يظهر فيها للزوج نأيه عن المرأة، وأن المصلحة في ذلك له. والظاهر أن الطلاق لا يكون إلا بعد العقد، ولا يصح طلاق من لم يعقد عليها عينها أو قبيلتها أو البلد، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين. وقالت طائفة كبيرة، منهم مالك: يصح ذلك. والظاهر أن المسيس هنا كناية عن الجماع، وأنه إذا خلا بها ثم طلقها، لا يعقد. وعند أبي حنيفة وأصحابه: حكم الخلوة الصحيحة حكم المسيس. والظاهر أن المطلقة رجعية، إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها، ثم فارقها قبل أن يمسها، لا تتم عدتها من الطلقة الأولى، ولا تستقبل عدة، لأنها مطلقة قبل الدخول، وبه قال داود. وقال عطاء وجماعة: تمضي في عدتها عن طلاقها الأول، وهو أحد قولي الشافعي. وقال مالك: لا تبنى على العدة من الطلاق الأول، وتستأنف العدة من يوم طلقها الطلاق الثاني، وهو قول فقهاء جمهور الأمصار. والظاهر أيضاً أنها لو كانت بائناً غير مبتوتة، فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول، كالرجعية في قول داود، ليس عليها عدة، لا بقية عدة الطلاق الأول ولا استئناف عدة الثاني، ولها نصف المهر. وقال الحسن، وعطاء، وعكرمة، وابن شهاب، ومالك، والشافعي، وعثمان البتي، وزفر: لها نصف الصداق، وتتم بقية العدة الأولى. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأبو يونس: لها مهر كامل للنكاح الثاني، وعدة مستقبلة، جعلوها في حكم المدخول بها، لاعتدادها من مائة.
وقرأ الجمهور: {تعتدونها}، بتشديد الدال: افتعل من العد، أي تستوفون عددها، من قولك: عد الدراهم فاعتدها، أي استوفى عددها؛ نحو قولك: كلته واكتاله، وزنته فاتزنته. وعن ابن كثير وغيره من أهل مكة: بتخفيف الدال، ونقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبو الفضل الرازي. وقال ابن عطية: وروي عن أبي برزة، عن ابن كثير: بتخفيف الدال من العدوان، كأنه قال: فما لكم عدة تلزمونها عدواناً وظلماً لهنّ، والقراءة الأولى أشهر عن ابن كثير، وتخفيف الدال وهم من أبي برزة. انتهى. وليس بوهم، إذ قد نقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح في شواذ القراءات)، ونقلها الرازي المذكور عن أهل مكة وقال: هو من الإعتداد لا محالة، لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه. فإن جعلت من الاعتداء الذي هو الظلم ضعف، لأن الاعتداء يتعدى بعلى. انتهى. وإذا كان يتعدى بعلى، فيجوز أن لا يحذف على، ويصل الفعل إلى الضمير، نحو قوله:
تحن فتبدى ما بها من صبابة *** وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني
أي: لقضى علي. وقال الزمخشري: وقرئ: تعتدونها مخففاً، أي تعتدون فيها، كقوله: ويوماً شهدناه. والمراد بالاعتداء ما في قوله: ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا. انتهى. ويعني أنه اتصل بالفعل لما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدة، كقوله:
ويوماً شهدناه سليماً وعامراً ***
أي: شهدنا فيه. وأما على تقدير على، فالمعنى: تعتدون عليهنّ فيها. وقرأ الحسن: بإسكان العين كغيره، وتشديد الدال جمعاً بين الساكنين. وقوله: {فما لكم} يدل على أن العدة حق الزوج فيها غالب، وإن كانت لا تسقط بإسقاطه، لما فيه من حق الله تعالى. والظاهر أن من طلقت قبل المسيس لها المتعة مطلقاً، سواء كانت ممدودة أم مفروضاً لها. وقيل: يختص هذا الحكم بمن لا مسمى لها. والظاهر أن الأمر في {فمتعوهنّ} للوجوب، وقيل: للندب، وتقدم الكلام مشبعاً في المتعة في البقرة. والسراج الجميل: هو كلمة طيبة دون أذى ولا منع واجب. وقيل: أن لا يطالبها بما آتاها. ولما بين تعالى بعض أحكام أنكحة المؤمنين، أتبعه بذكر طرف من نساء النبي صلى الله عليه وسلم. والأجور: المهور، لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع. وفي وصفهنّ ب {اللاتي آتيت أجورهنّ}، تنبيه على أن الله اختار لنبيه الأفضل والأولى، لأن إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره، ليتفصى الزوج عن عهدة الدين وشغل ذمته به، ولأن تأخيره يقتضي أنه يستمتع بها مجاناً دون عوض تسلمته، والتعجيل كان سنة السلف، لا يعرف منهم غيره. ألا ترى إلى قوله، عليه السلام، لبعض الصحابة حين شكا حالة التزوج:
«فأين درعك الحطمية»؟ وكذلك تخصيص ما ملكت يمينه بقوله: {مما أفاء الله عليك}، لأنها إذا كانت مسبية، فملكها مما غنمه الله من أهل دار الحرب كانت أحل وأطيب مما تشترى من الجلب. فما سبي من دار الحرب قيل فيه سبي طيبة، وممن له عهد قيل فيه سبي خبيثة، وفيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث.
والظاهر أن قوله: {إنا أحللنا لك أزواجك}، مخصوص لفظة أزواجك بمن كانت في عصمته، كعائشة وحفصة، ومن تزوجها بمهر. وقال ابن زيد: أي من تزوجها بمهر، ومن تزوجها بلا مهر، وجميع النساء حتى ذوات المحارم من ممهورة ورقيقة وواهبة نفسها مخصوصة به. ثم قال بعد {ترجي من تشاء منهنّ}: أي من هذه الأصناف كلها، ثم الضمير بعد ذلك يعم إلى قوله: {ولا أن تبدل بهنّ من أزواج}، فينقطع من الأول ويعود على أزواجه التسع فقط، وفي التأيل الأول تضييق. وعن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج أي النساء شاء، وكان ذلك يشق على نسائه. فلما نزلت هذه الآية، وحرم عليه بها النساء، إلا من سمي سر نساؤه بذلك، وملك اليمين إنما يعلقه في النادر، وبنات العم، ومن ذكر معهنّ يسير. ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه، ولا سيما وقد قرن بشرط الهجرة، والواجب أيضاً من النساء قليل، فلذلك سر بانحصار الأمر. ثم مجيء {ترجي من تشاء منهن}، إشارة إلى ما تقدم، ثم مجيء {ولا أن تبدل بهن من أزواج}، إشارة إلى أن أزواجه اللواتي تقدم النص عليهن بالتحليل، فيأتي الكلام مثبتاً مطرداً أكثر من اطراده على التأويل الآخر.
{وبنات عمك}، قالت أم هانئ، بنت أبي طالب: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه فعذرني، ثم نزلت هذه الآية فحرمتني عليه، لأني لم أهاجر معه، وإنما كنت من الطلقاء. والتخصيص ب {اللاتي هاجرن معك}، لأن من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات. وقيل: شرط الهجرة في التحليل منسوخ. وحكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق. والثاني: أنه شرط في إحلال قرابات المذكورات في الآية دون الأجنبيات، والمعية هنا: الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها، فيقال: دخل فلان معي وخرج معي، أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان. ولو قلت: فرجعنا معاً، اقتضى المعنيان الاشتراك في الفعل، والاقتران في الزمان. وأفرد العم والخال لأنه اسم جنس، والعمة والخالة كذلك، وهذا حرف لغوي قاله أبو بكر بن العربي القاضي.
{وامرأة مؤمنة}، قال ابن عباس، وقتادة: هي ميمونة بنت الحارث. وقال علي بن الحسين، والضحاك، ومقاتل: هي أم شريك. وقال عروة، والشعبي: هي زينب بنت خزيمة، أم المساكين، امرأة من الأنصار.
وقال عروة أيضاً: هي خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية. واختلف في ذلك. فعن ابن عباس: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منهن بالهبة. وقيل: الموهبات أربع: ميمونة بنت الحارث، ومن ذكر معها قبل. وقرأ الجمهور: {وامرأة}، بالنصب؛ {إن وهبت}، بكسر الهمزة: أي أحللناها لك. {إن وهبت}، {إن أراد}، فهنا شرطان، والثاني في معنى الحال، شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي، كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، لأن إرادته هي قبوله الهبة وما به تتم، وهذان الشرطان نظير الشرطين في قوله: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} وإذا اجتمع شرطان، فالثاني شرط في الأول، متأخر في اللفظ، متقدم في الوقوع، ما لم تدل قرينة على الترتيب، نحو: إن تزوجتك أو طلقتك فعبدي حر. واجتماع الشرطين مسألة فيها خلاف وتفصيل، وقد استوفينا ذلك في (شرح التسهيل)، في باب الجوازم. وقرأ أبو حيوة: وامرأة مؤمنة، بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف: أي أحللناها لك. وقرأ أبي، والحسن، والشعبي، وعيسى، وسلام: أن بفتح الهمزة، وتقديره: لأن وهبت، وذلك حكم في امرأة بعينها، فهو فعل ماض، وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسها دون واحدة بعينها. وقرأ زيد بن علي: اذ وهبت، إذ ظرف لما مضى، فهو في امرأة بعينها.
وعدل عن الخطاب إلى الغيبة في النبي، {إن أراد النبي}، ثم رجع إلى الخطاب في قوله: {خالصة لك}، للإيذان بأنه مما خص به وأوثر. ومجيئه على لفظ النبي، لدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته. واستنكاحها: طلب نكاحها والرغبة فيه. والجمهور: على أن التزويج لا يجوز بلفظ الإجارة ولا بلفظ الهبة. وقال أبو الحسن الكرخي: يجوز بلفظ الإجارة لقوله: {اللاتي آتيت أجورهن}، وحجة من منع: أن عقد الإجارة مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فتنافيا. وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى جواز عقد النكاح بلفظ الهبة إذا وهبت، فأشهد على نفسه بمهر، لأن رسول الله وأمته سواء في الأحكام، إلا فيما خصه الدليل. وحجة الجمهور: أنه، عليه السلام، خص بمعنى الهبة ولفظها جميعاً، لأن اللفظ تابع للمعنى، والمدعى للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل. وقرأ الجمهور: {خالصة}، بالنصب، وهو مصدر مؤكد، {كوعد الله} و{صبغة الله} أي أخلص لك إخلاصاً. {أحللنا}، {خالصة} بمعنى خلوصاً، ويجئ المصدر على فاعل وعلى فاعلة. وقال الزمخشري: والفاعل والفاعلة في المصادر على غير عزيزين، كالخارج والقاعد والعاقبة والكاذبة. انتهى، وليس كما ذكر، بل هما عزيزان، وتمثيله كالخارج يشير إلى قول الفرزدق:
ولا خارج من في زور كلام...
والقاعد إلى أحد التأويلين في قوله:
أقاعداً وقد سار الركب ***
والكاذبة إلى قوله تعالى: {ليس لوقعتها كاذبة} وقد تتأول هذه الألفاظ على أنها ليست مصادر. وقرئ: خالصة، بالرفع، فمن جعله مصدراً، قدره ذلك خلوص لك، وخلوص من دون المؤمنين. والظاهر أن قوله: {خالصة لك} من صفة الواهبة نفسها لك، فقراءة النصب على الحال، قاله الزجاج: أي أحللناها خالصة لك، والرفع خبر مبتدأ: أي هي خالصة لك، أي هبة النساء أنفسهنّ مختص بك، لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لغيرك. وأجمعوا على أن ذلك غير جائز لغيره، عليه السلام. ويظهر من كلام أبيّ بن كعب أن معنى قوله: {خالصة لك} يراد به جميع هذه الإباحة، لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع. وقال الزمخشري: والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، على سبيل التوكيد لها قوله: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم}، بعد قوله: {من دون المؤمنين}، وهي جملة اعتراضية. وقوله: {لكيلا يكون عليك حرج} متصل ب {خالصة لك من دون المؤمنين} في الأزواج الإماء، وعلى أي حد وصفه يجب أن يفرض عليهم، ففرضه وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختصه به، ففعل.
ومعنى {لكيلا يكون عليك حرج}: أي لكيلا يكون عليك ضيق في دينك، حيث اختصصناك بالتنزيه، واختصاص ما هو أولى وأفضل في دنياك، حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات، وزدناك الواهبة نفسها؛ ومن جعل خالصة نعتاً للمرأة، فعلى مذهبه هذه المرأة خالصة لك من دونهم. انتهى. والظاهر أن {لكيلا} متعلق بقوله: {أحللنا لك أزواجك}. وقال ابن عطية: {لكيلا يكون}، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لكي لا يكون عليك حرج، ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك، ثم آنس جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته. وقال الزمخشري: {غفوراً} للواقع في الحرج إذا تاب، {رحيماً} بالتوسعة على عباده. انتهى، وفيه دسيسه اعتزالية. {قد علمنا ما فرضنا عليهم} الآية، معناه: أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك، وأما حكم أمتك فعندنا علمه، وسنبينه لهم. وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن له في النكاح والتسري خصائص ليست لغيره. وقال مجاهد: {ما فرضنا عليهم}، هو أن لا يجاوزوا أربعاً. وقال قتادة: هو الولي والشهود والمهر. وقيل: ما فرضنا من المهر والنفقة والكسوة. {وما ملكت أيمانهم}، قيل: لا يثبت الملك إلا إذا كانت ممن يجوز سبيها. وقيل: ما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور، والمعنى: قد علمنا إصلاح كل منك ومن أمتك، وما هو الأصلح لك ولهم، فشرعنا في حقك وحقهم على وفق ما علمنا.
روي أن أزواجه عليه السلام لما تغايرن وابتغين زيادة النفقة، فهجرهن شهراً، ونزل التخيير، فأشفقن أن يطلقن فقلن: يا رسول الله، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت. وتقدم الكلام في معنى ترجي في قوله: {وآخرون مرجون لأمر الله} في سورة براءة. والظاهر أن الضمير في {منهن} عائد على أزواجه عليه السلام، والإرجاء: الإيواء. قال ابن عباس، والحسن: في طلاق ممن تشاء ممن حصل في عصمتك، وإمساك من تشاء. وقالت فرقة: في تزوج من تشاء من الواهبات، وتأخير من تشاء. وقال مجاهد، وقتادة، والضحاك: وتقرر من شئت في القسمة لها، وتؤخر عنك من شئت، وتقلل لمن شئت، وتكثر لمن شئت، لا حرج عليك في ذلك، فإذا علمن أن هذا حكم الله وقضاؤه، زالت الإحنة والغيرة عنهن ورضين وقرت أعينهن، وهذا مناسب لما روي في سبب هذه الآية المتقدم ذكره.
{ومن ابتغيت ممن عزلت}: أي ومن طلبتها من المعزولات ومن المفردات، {فلا جناح عليك} في ردها وإيوائها إليك. ويجوز أن يكون ذلك توكيداً لما قبله، أي ومن ابتغيت ممن عزلت ومن عزلت سواء، لا جناح عليك. كما تقول: من لقيك ممن لم يلقك، جميعهم لك شاكر، تريد من لقيك ومن لم يلقك، وفي هذا الوجه حذف المعطوف، وغرابة في الدلالة على هذا المعنى بهذا التركيب، والراجح القول الأول. وقال الحسن: المعنى: من مات من نسائك اللواتي عندك، أو خليت سبيلها، فلا جناح عليك أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك، فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك. وقال الزمخشري: بمعنى تترك مضاجع من تشاء منهن وتضاجع من تشاء، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء، أو لا تقسم لأيتهن شئت وتقسم لمن شئت، أو تترك من تشاء من أمتك وتتزوج من شئت. وعن الحسن: كان النبي، صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض، لأنه إما أن يطلق، وأما أن يمسك. فإذا أمسك ضاجع، أو ترك وقسم، أو لم يقسم. وإذا طلق وعزل، فإما أن يخلي المعزولة لا يتبعها، أو يتبعها. وروي أنه أرجأ منهن: سودة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة. فكان يقسم لهن ما شاء كما شاء، وكانت ممن أوى إليه: عائشة، وحفصة، وأم سملة، وزينب، أرجأ خمساً وأوى أربعاً. وروي أنه كان يسوي بينهن مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة، فإنها وهبت نفسها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك. انتهى. ذلك التفويض إلى مشيئتك أدنى إلى قرة عيونهن وانتفاء حزنهن ووجود رضاهن، إذا علمت أن ذلك التفويض من عند الله، فحالة كل منهن كحالة الأخرى في ذلك.
وقرأ الجمهور: {أن تقر أعينهن}: مبنياً للفاعل من قرت العين؛ وابن محيصن: يقر من أقر أعينهن بالنصب، وفاعل تقر ضميرالخطاب، أي أنت.
وقرئ: تقر مبنياً للمفعول، وأعينهن بالرفع. وقرأ الجمهور: {كلهن} بالرفع، تأكيداً النون {يرضين}؛ وأبو إياس حوبة بن عائد: بالنصب تأكيداً لضمير النصب في {آتيتهن}. {والله يعلم ما في قلوبكم}: عام. قال ابن عطية: والإشارة به ههنا إلى ما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص، ويدخل في المعنى المؤمنون. وقال الزمخشري، وعبيدة: من لم يرض منهن بما يريد الله من ذلك، وفوض إلى مشيئة رسوله، وبعث على تواطؤ قلوبهن، والتصافي بينهن، والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فيه طيب نفسه. انتهى. {وكان الله عليماً} بما انطوت عليه القلوب، {حليماً}: يصفح عما يغلب على القلب من المسؤول، إذ هي مما لا يملك غالباً. واتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام، كان يعدل بينهن في القسمة حتى مات، ولم يستعمل شيئاً مما أبيح له، ضبطاً لنفسه وأخذاً بالفضل، غير ما جرى لسودة مما ذكرناه.
{لا يحل لك النساء من بعد}: الظاهر أنها محكمة، وهو قول أبيّ بن كعب وجماعة، منهم الحسن وابن سيرين، واختاره الطبري. ومن بعد المحذوف منه مختلف فيه، فقال أبيّ، وعكرمة، والضحاك: ومن بعد اللواتي أحللنا لك في قوله: {إنا أحللنا لك أزواجك}. فعلى هذا المعنى، لا تحل لك النساء من بعد النساء اللاتي نص عليهن أنهن يحللن لك من الأصناف الأربعة: لا أعرابية، ولا عربية، ولا كتابية، ولا أمة بنكاح. وقال ابن عباس، وقتادة: من بعد، لأن التسع نصاب رسول الله من الأزواج، كما أن الأربع نصاب أمته منهن. قال: لما خيرن فاخترن الله ورسوله، جازاهن الله أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن، ونسخ بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء. وقال مجاهد، وابن جبير: وروي عن عكرمة: من بعد، أي من بعد إباحة النساء على العموم، ولا تحل لك النساء غير المسلمات من يهودية ولا نصرانية. وكذلك: {ولا أن تبدل بهن من أزواج}: أي بالمسلمات من أزواج يهوديات ونصرانيات. وقيل: في قوله {ولا أن تبدل}، هو من البدل الذي كان في الجاهلية. كان يقول الرجل: بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي، فينزل كل واحد منهما عن امرأته للآخر. قال معناه ابن زيد، وأنه كان في الجاهلية، وأنكر هذا القول الطبري وغيره في معنى الآية، وما فعلت العرب قط هذا.وما روي من حديث عيينة بن حصن أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حين دخل عليه بغير استئذان، وعنده عائشة. من هذه الحميراء؟ فقال: «عائشة»، فقال عيينة: يا رسول الله، إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العرب جمالاً: ونسباً، فليس بتبديل، ولا أراد ذلك، وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية ومن في {من أزواج} زائدة لتأكيد النفي، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم. وقيل: الآية منسوخة، واختلف في الناسخ فقيل: بالسنة. قال عائشة: ما مات حتى حل له النساء. وروي ذلك عن أم سلمة، وهو قول علي وابن عباس والضحاك، وقيل بالقرآن، وهو قوله: {ترجي من تشاء منهن} الآية. قال هبة الله الضرير: في الناسخ والمنسوخ له، وقال: ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا. قال ابن عطية: وكلامه يضعف من جهات. انتهى. وقيل: قوله {إنا أحللنا لك أزواجك} الآية، فترتيب النزول ليس على ترتيب كتابة المصحف. وقد روي عن ابن عباس القولان: إنها محكمة، وإنها منسوخة.
{ولو أعجبك حسنهن}، قيل: منهن أسماء بنت عميس الخثعمية، امرأة جعفر بن أبي طالب. والجملة، قال الزمخشري، في موضع الحال من الفاعل، وهو الضمير في {تبدل}، لا من المفعول الذي هو {من أزواج}، لأنه موغل في التنكير، وتقديره: مفروضاً إعجابك لهن؛ وتقدم لنا في مثل هذا التركيب أنه معطوف على حال محذوفة، أي {ولا أن تبدل بهن من أزواج} على كل حال، ولو في هذه الحال التي تقتضي التبدل، وهي حالة الإعجاب بالحسن. قال ابن عطية: وفي هذا اللفظ {أعجبك حسنهن}، دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها. انتهى. وقد جاء ذلك في السنة من حديث المغيرة بن شعبة، وحديث محمد بن مسلمة.
{إلا ما ملكت يمينك}: أي فإنه يحل لك. وأما إن كانت موصولة واقعة على الجنس، فهو استثناء من الجنس، يختار فيه الرفع على البدل من النساء. ويجوز النصب على الاستثناء، وإن كانت مصدرية، ففي موضع نصب، لأنه استثناء من غير جنس الأول، قاله ابن عطية، وليس بجيد، لأنه قال: والتقدير: إلا ملك اليمين، وملك بمعنى: مملوك، فإذا كان بمعنى مملوك صار من حملة النساء لأنه لم يرد حقيقة المصدر، فيكون الرفع هو أرجح، ولأنه قال: وهو في موضع نصب، ولا يتحتم أن يكون في موضع نصب. ولو فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة، بل الحجاز تنصب وتميم تبدل، لأنه مستثنى، يمكن توجه العامل عليه، وإنما يكون النصب متحتماً حيث كان المستثنى لا يمكن توجه العامل عليه نحو: ما زاد المال إلا النقص، فلا يمكن توجه الزيادة على النقص، ولأنه قال: استثناء من غير الجنس. وقال مالك: بمعنى مملوك فناقض. {وكان الله على كل شيء رقيباً}: أي راقباً، أو مراقباً، ومعناه: حافظ وشاهد ومطلع، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطي حلاله وحرامه.

1 | 2 | 3